فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَاءَ} {منْ شركاء} مبتدأٌ، و{منْ} مزيدةٌ فيه لوجود شرطَيْ الزيادة. وفي خبره وجهان، أحدهما: الجارُّ الأولُ وهو {لكم} و{مّن مَّا مَلَكَتْ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منْ {شركاءَ} لأنه في الأصل نعتُ نكرةٍ، قُدّم عليها. والعاملُ فيه العاملُ في هذا الجارّ الواقع خبرًا. والخبرُ مقدرٌ بعد المبتدأ، و{في مَا رَزَقْنَاكُمْ} متعلّقٌ بشركاء. وما في {ممَّا} بمعنى النوع تقديرُ ذلك كلّه: هل شركاءُ فيما رَزَقْناكم كائنون من النوع الذي مَلَكَتْه أَيْمانُكم مستقرُّون لكم. فكائنون هو الوصفُ المتعلّقُ به {ممَّا مَلَكَتْ} ولَمَّا تقدَّم صار حالًا، و{مستقرُّون} هو الخبرُ الذي تعلَّق به {لكم}.
والثاني: أنَّ الخبرَ {ممَّا مَلَكَتْ} و{لكم} متعلّقٌ بما تَعَلَق به الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ منْ {شركاء} أو بنفس {شركاء} كقولك: لك في الدنيا مُحبٌّ فلك متعلقٌ ب مُحبّ. وفي الدنيا هو الخبرُ.
قوله: {فَأَنتُمْ فيه سَوَاءٌ} هذه الجملةُ جوابُ الاستفهام الذي بمعنى النفي، و{فيه} متعلّقٌ ب {سَواء}.
قوله: {تَخافونهم} فيه وجهان، أحدهما: أنها خبرٌ ثانٍ ل أنتم. تقديرُه: فأنتم مُسْتَوُوْن معهم فيما رَزَقْناكم، خائفوهم كخَوْف بعضكم بعضًا أيها السادة. والمرادُ نَفْيُ الأشياء الثلاثة أعني الشّرْكةَ والاستواءَ مع العبيد وخوفَهم إياهم. وليس المرادُ ثبوتَ الشركة ونَفْيَ الاستواء والخوف، كما هو أحدُ الوجهين في قولك: ما تأتينا فتحدّثَنا بمعنى: ما تأتينا مُحدّثًا بل تأتينا ولا تحدثنا، بل المرادُ نفيُ الجميع كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء: {فَأَنتُمْ فيه سَوَاءٌ} الجملةُ في موضع نصبٍ على جواب الاستفهام أي: هل لكم فَتَسْتَوُوا انتهى. وفيه نظرٌ؛ كيف جَعَل جملةً اسمية حالَّةً محلَّ جملةٍ فعلية، ويَحْكمُ على موضع الاسمية بالنصب بإضمار ناصبٍ؟ هذا ما لا يجوزُ ولو أنه فَسَّر المعنى وقال: إنَّ الفعلَ لو حَلَّ بعدَ الفاء لكان منصوبًا بإضمار أن لكان صحيحًا. ولابد أَنْ يُبَيَّنَ أيضًا أنَّ النصبَ على المعنى الذي قَدَّمْتُه منْ نَفْي الأشياء الثلاثة.
والوجه الثاني: أنَّ {تخافونهم} في محلّ نصبٍ على الحال من ضمير الفاعل في {سَواء} أي: فتساوَوْا خائفًا بعضُكم بعضًا مشاركتَه له في المال. أي: إذا لم تَرْضَوا أن يشاركَكم عبيدُكم في المال فكيف تُشركون بالله مَنْ هو مصنوعٌ له؟ قاله أبو البقاء.
وقال الرازي معنى حسنًا، وهو: أنَّ بين المَثَل والمُمَثَّل به مشابهةً ومخالفةً.
فالمشابهةُ معلومةٌ، والمخالفةُ منْ وجوه: قوله: {منْ أنفسكم} أي: منْ نَسْلكم مع حقارة الأنفس ونَقْصها وعَجْزها، وقاسَ نفسَه عليكم مع جلالتها وعظمتها وقُدْرَتها. قوله: {مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: عبيدكم والملْكُ طارئ قابلٌ للنقل بالبيع وللزوال بالعتْق، ومملوكُه تعالى لا خروجَ له عن الملْك، فإذا لم يَجُزْ أَنْ يُشْركَكم مملوكُكُم، وهو مثْلُكم إذا تحرَّرَ منْ جميع الوجوه، ومثلُكم في الآدميَّة حالةَ الرّق فكيف يُشْرَكُ باللَّه تعالى مملوكُه منْ جميع الوجوه، المباينُ له بالكلية؟ وقوله: {فيما رَزَقْنَاكم} يعني أنه ليس لكم في الحقيقة، إنما هو لله تعالى ومَنْ رَزَقه حقيقةً. فإذا لم يَجُزْ أَنْ يَشْرَكَكم فيما هو لكم، من حيث الاسمُ، فكيف يكون له تعالى شريكٌ فيما له من جهة الحقيقة؟ انتهى وإنما ذكرْتُ هذا المعنى مَبْسوطًا لأنَّه مبيّنٌ لما ذكرته منْ وجوه الإعراب.
وقوله: {كَخيْفَتكم} أي: خيْفَةً مثلَ خيْفتكم. والعامَّةُ على نصب {أنفسَكم} لأنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعله. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر لمفعوله. واستقبح بعضُهم هذا إذا وُجد الفاعلُ. وقال بعضُهم: ليس بقبيحٍ بل يجوزُ إضافتُه إلى كلٍ منهما إذا وُجدا. وأنشد:
أَفْنَى تلادي وما جَمَّعْتُ منْ نَشَبٍ ** قَرْعُ القواريز أفواهَ الأباريق

بنصب الأفواه ورَفْعها.
قوله: {كذلك نُفَصّل} أي: مثلَ ذلك التفصيل البيّن نُفَصّل. وقرأ أبو عمرو في رواية {يُفَصّلُ} بياء الغيبة رَدًّا على قوله: {ضَرَبَ لكم}. والباقون بالتكلم رَدًّا على قوله: {رَزَقْناكم}.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفًا فطْرَتَ اللَّه الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْديلَ لخَلْق اللَّه ذَلكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ (30)}.
قوله: {حَنيفًا} حالٌ منْ فاعل أَقمْ أو منْ مفعوله أو من {الدّين}.
قوله: {فطْرَةَ الله} فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون الجملة كقوله: {صبْغَةَ الله} [البقرة: 138] و{صُنْعَ الله} [النمل: 88]. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار فعْل. قال الزمخشري: أي: الزموا فطرةَ الله، وإنما أَضْمَرْتُه عَلَى خطاب الجماعة لقوله: {مُنيبيْن إليه} وهو حالٌ من الضمير في الزَموا. وقولُه: {واتَّقوه وأقيموا} {ولا تكونوا} معطوفٌ على هذا المضمر. ثم قال: أو عليكم فطرةَ. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ كلمةَ الإغراء لا تُضْمَرُ؛ إذ هي عوَضٌ عن الفعل، فلو حَذَفْتَها لَزمَ حَذْفُ العوَض والمُعَوَّض منه. وهو إحجافٌ. قلت: هذا رأيُ البصريين. وأمَّا الكسائيُّ وأتباعُه فيُجيزون ذلك. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا منْ أَنْفُسكُمْ} أي إذا كان لكم مماليك لا تَرْضَوْن بالمساواة بينكم وبينهم، وأنتم متشاكلون بكلّ وجه-إلا أنكم بحكم الشرع مالكوهم- فَمَا تقولون في الذي لم يَزَلْ، ولا يزال كما لم يزل؟
هل يجوز أن يُقَدَّرَ في وصفه أن يُسَاويَه عبيدُه؟وهل يجوز أن يكون مملوكُه شريكَه؟ تعالى اللَّهُ عن ذلك علوًا كبيرًا!
{بَل اتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بغَيْر علْمٍ فَمَنْ يَهْدي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ منْ نَاصرينَ (29)}.
أشدُّ الظلم متابعةُ الهوى، لأنه قريبٌ من الشّرْك، قال تعالى: {أَفَرَءَيْتَ مَن اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. فَمَنْ اتَّبَعَ هواه خالف رضا مولاه؛ فهو بوضعه الشىءَ غيرَ موضعه صار ظالمًا، كما أَنَّ العاصيَ بوضعه المعصيةَ موضعَ الطاعة ظالمٌ. كذلك هذا بمتابعة هواه بَدَلًا عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار في الظلم متماديًا.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفًا فطْرَتَ اللَّه الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْديلَ لخَلْق اللَّه ذَلكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ (30)}.
أخْلصْ قَصْدَك إلى الله، واحفَظْ عهدك مع الله، وأَفردْ عملَكَ في سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك لله.
{حَنيفًا} أي مستقيمًا في دينه، مائلًا إليه، مُغْرَضًا عن غيره، والزَمْ {فطْرَتَ اللَّه التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي أثْبَتَهُم عليها قبل أن يُوجَدَ منهم فعْلٌ ولا كَسْب، ولا شرْكٌ ولا كُفْر، وكما ليس منهم إيمان وإحسان فليس منهم كفران ولا عصيان. فاعرف بهذه الجملة، ثم افعل ما أُمرْتَ به، واحذر ما نُهيتَ عنه.
فعلى هذا التأويل فإن معنى قوله: {فطْرَتَ اللَّه التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي اعْرَفْ واعْلَمْ أن فطرة الله التي فطر الناس عليها: تَجَرُّدُهم عن أفعالهم، ثم اتصافهم بما يكسبون- وإن كان هذا أيضًا بتقدير الله.
وعلى هذا تكون {فطْرَتَ} الله منصوبة بإضمار اعْلَمْ- كما قلنا.
سبحانه فَطَرَ كلَّ أحدٍ على ما عَلمَ أنه يكون في السعادة أو الشقاوة، ولا تبديلَ لحُكْمه، ولا تحويلَ لما عليه فَطَرَه. فمَنْ عَلمَ أنه يكون سعيدًا أراد سعادته وأخبر عن سعادته، وخَلَقَه في حُْكمه سعيدًا. ومَنْ عَلمَ شقاوته أراد أن يكون شقيًا وأخبر عن شقاوته وخَلَقَه في حكمه شقيًا. ولا تبديل لحُكمه، هذا هو الدين المستقيم والحقُّ الصحيح. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}.
وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم لا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعفولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبيد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول. اهـ.

.قال الشنقيطي:

سورة الروم:
قوله تعالى: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين حَنيفا}.الآية.
هذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى بعده: {مُنيبينَ إلَيْه وَاتَّقُوهُ} فقوله: {مُنيبينَ إلَيْه} حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله: {فَأَقمْ وَجْهَكَ} الواقع على النبي-صلى الله عليه وسلم- فتقرير المعنى: فاقم وجهك يا نبي الله-صلى الله عليه وسلم- في حال كونكم منيبين إليه.
وقد تقرر عند علماء العربية أن الحال إن لم تكن سببية لابد أن تكون مطابقة لصاحبها إفرادًا وثنية وجمعًا وتذكيرًا وتأنيثًا فما وجه الجمع بين هذه الحال وصاحبها؟ فالحال جمع وصاحبها مفرد.
والجواب أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يعمُّ حكمُه جميعَ الأمة؛ فالأمة تدخل تحت خطابه-صلى الله عليه وسلم- فتكون الحال من الجميع الداخل تحت خطابه-صلى الله عليه وسلم-.
ونظير هذه الآية في دخول الأمة تحت الخطاب الخاص به-صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ} الآية.
فقوله: {طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ} بعد يا أيها النبي دليل على دخول الأمة تحت لفظ النبي.
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ لمَ تُحَرّمُ} ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحلَّةَ أَيْمَانكُمْ}.
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ اتَّق اللَّه} ثم قال: {إنَّ اللَّهَ كَانَ بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرًا} الآية.
وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ منْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} ثم قال: {لكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمنينَ حَرَجٌ} الآية.
وقوله: {وَمَا تَكُونُ في شَأْن} ثم قال: {وَلا تَعْمَلُونَ منْ عَمَلٍ}.
ودخول الأمة في الخطاب الخاص بالنبي-صلى الله عليه وسلم- هو مذهب الجمهور وعليه مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى خلافًا للشافعي رحمه الله. اهـ.

.تفسير الآيات (31- 35):

قوله تعالى: {مُنيبينَ إلَيْه وَاتَّقُوهُ وَأَقيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا منَ الْمُشْركينَ (31) منَ الَّذينَ فَرَّقُوا دينَهُمْ وَكَانُوا شيَعًا كُلُّ حزْبٍ بمَا لَدَيْهمْ فَرحُونَ (32) وَإذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنيبينَ إلَيْه ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ منْهُ رَحْمَةً إذَا فَريقٌ منْهُمْ برَبّهمْ يُشْركُونَ (33) ليَكْفُرُوا بمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بمَا كَانُوا به يُشْركُونَ (35)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من الناس من منّ الله عليه بأن كان في هذا الميدان، وسمت همته إلى مسابقة الفرسان، فلما رأى أنه لم يلتفت إليه، ولم يعول أصلًا عليه، كادت نفسه تطير، وكانت عادة القوم أن يخاطبوا القوم لمخاطبة رئيسهم تعظيمًا له وحثًا لهم على التحلي بما خص به، جُبرت قلوبهم وشرحت صدورهم فبينت لهم حال من ضمير أقم أو من العامل في {فطرت} إعلامًا بأنهم مرادون بالخطاب، مشار إليهم بالصواب، فقال: {منيبين} أي راجعين مرة بعد مرة بمجاذبة النفس والفطرة الأولى {إليه} تعالى بالنزوع عما اكتسبتموه من رديء الأخلاق إلى تلك الفطرة السليمة المنقادة للدليل، الميالة إلى سواء السبيل.
ولما لم يكن بعد الرجوع إلى المحبة إلا الأمر بلزومها خوفًا من الزيغ عنها دأب المرة الأولى.
قال عاطفًا على {فأقم} {واتقوه} أي خافوا أن تزيغوا عن سبيله يسلمكم في أيدي أولئك المضلين، فإذا خفتموه فلزمتموها كنتم ممن تخلى عن الرذائل {وأقيموا الصلاة} تصيروا ممن تحلى بالفضائل- هكذا دأب الدين أبدًا تخلية ثم تحلية: أول الدخول إلى الإسلام التنزيه، وأول الدخول في القرآن الاستعاذة، وهو أمر ظاهر معقول، مثاله من أراد أن يكتب في شيء إن مسح ما فيه من الكتابة انتفع بما كتب، وإلا أفسد الأول ولم يقرأ الثاني- والله الموفق.
ولما كان الشرك من الشر بمكان ليس هو لغيره، أكد النهي عنه بقوله: {ولا تكونوا} أي كونًا ما {من المشركين} أي لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددة أو معاشرة أو عمل تشابهونهم فيه فإنه «من تشبه بقوم فهو منهم» وهو عام في كل شرك سواء كان بعبادة صنم أو نار أوغيرهما، أو بالتدين بما يخالف النصوص من أقوال الأحبار والرهبان وغير ذلك.
ولما كانوا يظنون أنهم على صواب، نصب لهم دليلًا على بطلانه بما لا أوضح منه، ولا يمكن أحدًا التوقف فيه، وذلك أنه لا يمكن أن يكون الشيء متصفًا بنفي شيء وإثباته في حالة واحدة فقال مبدلًا: {من الذين فرقوا} لما فارقوا {دينهم} الذي هو الفطرة الأولى، فعبد كل قوم منهم شيئًا ودانوا دينًا غير دين من سواهم، وهو معنى {وكانوا} أي بجهدهم وجدهم في تلك المفارقة المفرقة {شيعًا} أي فرقًا متحالفين، كل واحدة منهم تشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفر بعضهم بعضًا واستباحوا الدماء والأموال، فعلم قطعًا أنهم كلهم ليسوا على الحق.
ولما كان هذا أمرًا يتعجب من وقوعه، زاده عجبًا بقوله استئنافًا: {كل حزب} أي منهم {بما لديهم} أي خاصة من خاص ما عندهم من الضلال الذي انتحلوه {فرحون} طنًا منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم.
ولما حصل من هذا القطع من كل عاقل أن أكثر الخلق ضال، فكان الحال جديرًا بالسؤال، عن وجه الخلاص من هذا الضلال، أشير إليه أنه لزوم الاجتماع، وبين ذلك في جملة حالية من فاعل {فرحون} فقال تعالى: {وإذا} وكان الأصل: مسهم، ولكنه قيل لأنه أنسب بمقصود السورة من قصر ذلك على الإنسان كما هي العادة في أكثر السور أو غير ذلك من أنواع العالم: {مس الناس} تقوية لإرادة العموم إشارة إلى كل من فيه أهلية النوس وهو التحرك، من الحيوانات العجم والجمادات لو نطقت ثم اضطربت لتوجهت إليه سبحانه ولم تعدل عنه كما أنها الآن كذلك بألسنة أحوالها، فهذا هو الإجماع الذي لا يتصور معه نزاع {ضر دعوا ربهم} أي الذي لم يشاركه في الإحسان إليهم أحد في جميع مدة مسهم بذلك الضر- بما أشار إليه الظرف حال كونهم {منيبين} أي راجعين من جميع ضلالاتهم التي فرقتهم عنه {إليه} علمًا منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره، هذا ديدن الكل لا يخرم عنه أحد منهم في وقت من الأوقات، ولا في أزمة من الأزمات، قال الرازي في اللوامع في أواخر العنكبوت: وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء.